كسروا صيامهم بـ”البيبة” وطافوا المدينة بالجياد لإعلان رؤية الهلال.. “رمضان زمان” في مصر بعيون مستشرق إنجليزي
يرتاد بعض المصريين، خاصة من أبناء الطبقات الدنيا، المقاهي في المساء، ويتدفق الناس إلى الشوارع طوال جزء طويل من الليل، كما تبقى محلات بيع المشروبات والمأكولات مفتوحة، وهكذا ينقلب الليل نهارا، ويقيم بعض علماء القاهرة حلقات ذكر في منازلهم كل ليلة طوال هذا الشهر، كما يدعو بعض الأشخاص أصدقاءهم فيقيمون ذكراً أو ختمة”.
عندما تقرأ هذا النص تعتقد أن مصرياً أباً عن جد، يسكن في أكثر أحياء القاهرة ازدحاماً، يحدثنا عن ليالي رمضان، وليس الابن الثالث لكاهن فخري لكاتدرائية “هيرفورد” الإنجليزية الشهيرة، والذي كان يعد ولده للالتحاق بالكنيسة، قبل أن يغيّر الابن خطط أبيه وينتقل في بداية عشرينيات عمره ليعيش في القاهرة ويتعلم العربية، إذ إن كاتب هذه الكلمات هو المستشرق الإنجليزي إدوارد وليام لين، الذي كتب كتاباً طويلاً ليتحدث عن عادات المصريين وتقاليدهم في ثلاثينيات القرن الـ19 (بين 1833: 1835).
ومن بين صفحات الكتاب المتجاوزة 500 صفحة، اخترنا بعض المشاهد الخاصة باستقبال المصريين رمضان وطقوسهم في شهر الصيام في ذلك الزمان بعيون المستشرق الإنجليزي.
رؤية الهلال: “يا أتباع أفضل خلق الله، صوموا.. صوموا”
تحدَّث المستشرق عن رحلة المصريين لرؤية هلال رمضان بعد انقضاء 30 يوماً من شهر شعبان، واكتفائهم في بعض الأحيان بشهادة مسلم واحد يرى الهلال، خصوصاً في ليالي تلبُّد السماء وعدم وضوح الهلال، ثم يسرد أجواء إبلاغ عموم المصريين ببدء شهر الصيام، ويكتب
“ينطلق المحتسب وشيوخ بعض التجارات المختلفة وفرق المزيكائيين والفقراء يرأسهم جنود، في موكب من القلعة إلى محكمة القاضي، وينتظر عودة أحد الأشخاص الذي ذهب لرؤية الهلال، ويحتشد الناس في الشوارع التي يمرون بها، وجرت العادة أن تنضم إلى الموكب طائفة من الجياد المغطاة أسرجتها بشكل مزركش؛ بيد أن العرض العسكري للطبقة الفقيرة قد حل محل الأُبَّهة الدينية المدنية التي تشهدها هذه الليلة وبات يقتصر مركب ليلة الرؤية اليوم على مشاة النظام. ويتقدم حاملو المشاعل كل مجموعة من الجنود، كما يسيرون خلفهم لإنارة الطريق لهم عند عودتهم ويتبعهم الشيخ وبعض أعضاء التجارات الأخرى مع العديد من الفقراء وهم يهتفون عند مرورهم : (بركة، بركة. بارك الله عليك يا رسول، السلام عليه). وتنقضي عامة بضع دقائق بعد مرور فرقتين أو ثلاث فرق، ويختم المحتسب ومساعدوه الموكب”.
“بعد أن يصل الخبر اليقين لرؤية القمر (الهلال) إلى محكمة القاضي، ينقسم الجنود والمحتشدون فرقاً عديدة، ويعود فريق منهم إلى القلعة بينما تطوف الفرق الأخرى في أحياء مختلفة بالمدينة ويهتفون: (يا أتباع أفضل خلق الله، صوموا.. صوموا)”.
ويضيف وليام لين: “إذا لم يروا القمر في تلك الليلة، يصيح المنادي: بكرة (غداً) شعبان، مفيش (لا يوجد) صيام، مفيش صيام. ويمضي المصريون وقتاً كبيراً في تلك الليلة يأكلون ويشربون ويدخنون، وترتسم البهجة على وجوههم كما لو كانوا تحرروا من شقاء يوم صيام، وتتلألأ الجوامع بالأنوار، كما في الليالي المتعاقبة، وتُعلق المصابيح عند مداخل المآذن وأعلاها”.
الناس نكديّو المزاج نهاراً ومحبون ليلاً
أفرد المستشرق وليام عدة أسطر ليروي الحالة المزاجية للمصريين أثناء نهار رمضان وبعده، فيقول: “لا نصادف خلال شهر رمضان الناس في الشوارع يحملون البيبات (Pipe)؛ (وهو أداة يُدَخَّنُ فيها الطُّباقُ وكانت تصنع من القصب) كما في الأوقات الأخرى؛ بل نراهم يمشون فارغي اليدين أو يحملون عصا أو سُبحة.. وتكتسي الشوارع نهاراً منظراً کئيباً وتغلق معظم المحلات أبوابها، ويعود الازدحام إليها كالعادة في فترة بعد الظهر، وتفتح المحلات أبوابها ويكون المسلمون طوال صيامهم نهاراً نكديي المزاج، ويتحولون ليلاً بعد الإفطار إلى ودودين مُحبين بشكل غير عادي”.
ولأن هذه الفترة من التاريخ شهدت حياة أتراك بين المصريين، فكانت طقوسهم خصوصاً الرمضانية لافتة للكاتب، الذي ذكر: “يدرج الأتراك في القاهرة وغيرهم في رمضان على التوجه إلى جامع الحسين في فترة بعد الظهر للصلاة والاستراحة. ويعرض بعض التجار الأتراك ويعرفون بالتُحْفَجيَّة، في مثل هذه المناسبات بضاعتهم في باحة الميضاة للبيع والتي تنم عن ذوق رفيع وتتماشى مع حاجات مواطنيهم”.
كما وصف مشاهد تقرُّب المصريين إلى الله، خصوصاً الأغنياء الذين لم يبخلوا على الفقراء بمنحهم الطعام والمال، وكتب: “من الشائع في رمضان رؤية التجار في متاجرهم يتلون آيات من القرآن أو يؤدون الصلوات أو يوزعون الخبز على الفقراء. ويصبح المتسولون قبيل المساء وأحياناً بعيد المغيب، مزعجين وصاخبين”.
المقاهي كانت حاضرة في رمضان كحضورها قبله، ولكن المشاهد مختلفة قليلاً في شهر الصيام عن غيره، خصوصاً في المناطق الشعبية، وكتب وليام: “يتوافد في هذه الأوقات أبناء الطبقات الدنيا إلى المقاهي، ويفضل بعضهم کسر صيامه بفنجان قهوة وبيبة. وقليلون هم الفقراء الذين يكسرون صيامهم؛ وقد يعمد بعض أبناء الطبقتين الغنية والمتوسطة إلى التوقف عن الصيام سراً”.
منازل المصريين وقت الإفطار
طاولة الإفطار المصرية في رمضان كانت أحد مظاهر الشهر المميزة، إذ كتب المستشرق: “يضع أبناء الطبقتين المتوسطة والغنية طوال شهر رمضان كرسي الإفطار في الحجرة التي يستقبل فيها سيد المنزل زواره قبيل المغيب بدقائق معدودة. وتثبت صينية فوق هذا الكرسي تُزيّنها أطباق الطعام”.
أما عن أصناف الطعام على طاولة الإفطار فقد تنوعت بين الزبيب والتمر المجفف والتين المجفف والكحك والبندق المحمص والجوز وبعض قُلَل الشربات من السكر والماء.
كانت طاولة الإفطار تعد لاستقبال أي ضيف مفاجئ، إذ كان المصريون “يزيدون فنجانة أو فنجانين إضافة إلى عدد الأشخاص في المنزل للزوار الذين يحضرون بغتة فيتشاركون الشراب ويضيفون أحياناً قطعة جبن صغيرة طازجة ورغيف خبز. وتكون البيبات جاهزة دائماً كما نجد في المنازل التي يتدفق عليها الزوار”.
لحظة أذان المغرب المنتظرة منذ ساعات كان لها طقوسها أيضاً، إذ “يتناول سيد المنزل بعد أذان المغرب الذي يُرفع بعد المغيب بأربع دقائق، مع لفيف من أفراد عائلته أو أصدقائه، کاساً من الشربات، ثم يؤدون صلاة العشاء ويأكلون بعدها شيئاً من النُقْل ويدخنون بیباتهم. ويجلسون بعد تناولهم هذا الشراب المنعش لتناول الفطور، الاسم المؤلف من اللحم وغيره من أطايب الطعام”.
و”لا يُفرِط بعضهم في الطعام عند الفطور ويتركون اللذائذ والأطايب الدسمة لفترة السحور، وقد يقلب بعضهم الآخر هذه القاعدة أو يساوي بين الوجبتين. وعند انتصاف الليل يخلد معظمهم للنوم”.
البيبة كانت حاضرة دائماً بعد الإفطار، وبين الصلوات، حتى إن صلاة العشاء كان يسبقها تدخين البيبة كما وصف المستشرق، الذي أفرد سطوراً أخرى عن صلاة العشاء والتراويح، وكتب: “ويصلي الأشخاص عامةً صلاة التراويح (عشرين ركعة) جماعة في المسجد، وتقفل الجوامع الصغيرة أبوابها في شهر رمضان بعد صلاة التراويح وأما الكبيرة منها فتبقى مفتوحة حتى وجبة السحور”.
أما الأكيد فهو أن المساجد كانت تضيء أنوارها الليل بطوله، وذلك حتى الفجر، إذ ذكر الكتاب: “تشع أنوار هذه الجوامع في داخلها وخارجها طالما أبوابها مفتوحة وتضاء المآذن طوال الليل”.
الزيارات الرمضانية
التزاور كان أحد مشاهد رمضان الحاضرة التي لاحظها المستشرق، إذ كتب: “يتناول المسلمون فطورهم عامة في منازلهم ويمضون بعده ساعة أو ساعتين أحياناً في منزل أحد الأصدقاء. ويرتاد بعضهم، خاصةً أبناء الطبقات الدنيا، المقاهي في المساء فيعقدون اللقاءات الاجتماعية أو يستمعون إلى رواة القصص الشعبية أو عزف المزيكاتيين الذين يلونهم في المقاهي كل ليلة في هذا الشهر”.
وكما نعرف جميعاً، مصريين وعرباً، أن ليالي القاهرة لا تنام، خصوصاً في رمضان، إذ كان “يتدفق الناس إلى الشوارع طوال جزء طويل من الليل، كما تبقى محلات بيع الشربات والمأكولات مفتوحة. وهكذا ينقلب الليل نهاراً بفضل الأغنياء، خاصةً الذين ينامون في النهار”.
ولم تخلُ ليالي رمضان من الذكر والتعبد، إذ كان “يقيم بعض علماء القاهرة حلقات ذکر في منازلهم كل ليلة طوال هذا الشهر، كما يدعو بعض الأشخاص أصدقاءهم فيقيمون ذكراً أو ختمة”.
المسحراتي: “اصح يا غفلان، دا سعد لياليك”
المسحراتي، الذي يدور كل ليلة مُطلقاً المدائح ومُوقظاً من نام ليلاً لتناول سحوره، كان يطلب الرزق أيضاً بعمله، وكان يسمي سكان المنطقة كلاً باسمه؛ إذ كتب المستشرق الإنجليزي: “لكل منطقة صغيرة في القاهرة مُسحِّرها الخاص الذي يبدأ جولته بعد ساعتين تقريباً من المغيب (أي بعد صلاة المغيب بفترة وجيزة)، فيحمل في يده اليسرى بازاء صغيرة أو ما يُعرف بطبلة المسكر، وفي يده اليمنى عصا صغيرة أو سوطاً يضرب به. ويرافقه في جولته صبيٌّ يحمل قنديلاً في إطار من أعواد النخل، فيتوقفون أمام منزل كل مسلم إلا الفقراء منهم”.
“يضرب المسحراتي عند كل وقفة ثلاث مرات حسب النغمة التي يظهرها ثم يطلق المدائح النبوية منادياً بالصلاة على الرسول وبتوحيد الله فيقول: (اصح يا غفلان وحِّد الرحمن)، ثم يضرب الطبلة كما في السابق مردفاً: (محمد رسول الله..)، ويعيد ضرب الطبلة قائلاً: (دا سعد لياليك يا فلان)، (ويسمي اسم سید المنزل)، ويكون المسحراتي استقصى أسماء سكان كل منزل فيحيي كل واحد فيه إلا النساء بالطريقة عينها، ويذكر كل أخ له وابن وابنة شابة عزباء قائلاً: “أسعد الليالي لِسِتِّ العرايس فلانة. ويضرب بازه بعد كل تحية ويحيي الرجل (أو الرجال) كما الآتي: تقبل الله منه (أو منهم) صلاته (أو صلواتهم) وصيامه”.
وقوف المسحراتي عند أبواب الأغنياء كان مختلفاً، فإذا توقف هناك أعاد التوحيد والصلاة على النبي ويدعو لصاحب البيت ثم يبدأ برواية قصة المعراج وغيرها من قصص المعجزات، ضارباً طبلته عند قوله بعض الكلمات أو بالأحرى بعد كل نغمة، لكنه كان يغض الطرف عن المنزل المتشح بالسواد حداداً على ميت، إذ يعد مسير المسحراتي مظهراً احتفالياً لا يناسب الحزانى على فقيد لهم في رمضان.
المسحراتي بالأساس مهنة لطلب الرزق، إذ “يحصل عادة عند منزل الشخص المنتمي إلى الطبقة المتوسطة على قرشين او ثلاثة أو أربعة قروش في العيد، الذي يعقب شهر رمضان ويعطيه بعضهم مبلغاً بسيطاً كل ليلة”.
“تضع المرأة في العديد من منازل الطبقة المتوسطة في القاهرة قطعة معدنية صغيرة (أو خمس فضات أو قرشاً أو أكثر) في قطعة من الورق وترميها من النافلة إلى المسحراتي بعد أن تكون أضرمت النار في الورقة حتى یری مكان وقوعها. فيتلو المسحراتي حسب رغبتها أو بملء إرادته سورة الفاتحة ويخبرها قصة قصيرة غير موزونة القافية ليسليها”.
صلاة “الأبرار والسلام”
صلاة التهجد في العشر الأواخر كانت تُعرف بصلاة الأبرار والسلام، إذ كانت تقام صلاة “الأبرار” بين ساعة وساعة ونصف ساعة قبل منتصف الليل، وتبدأ الصلاة بآية من سورة “الإنسان” تقول “إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً يوفون بالنذر ويخافون پوماً كان شره مستطيراً ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً”، لذلك سميت بصلاة الأبرار.
أما الصلاة الثانية فتُعرف بـ”السلام”، وهي مجموعة أدعية ومدائح في الرسول مشابهة للأدعية التي تسبق صلاة الجمعة وإن لم تتشابه دائماً، وتقام هذه الصلاة بعد نصف ساعة من انتصاف الليل.
أشار المستشرق كذلك إلى رفع المآذن أذان الفجر باكراً؛ لتنبیه المسلمين ليتناولوا وجبة السحور، فـ”يرفع الأذان بعد ساعتين ونصف ساعة في ليالي الشتاء الطويلة، وبعد نحو ساعة ونصف ساعة في الليالي القصيرة قبل الإمساك. كذلك ترفع الجوامع الكبيرة أذاناً آخر قبل الإمساك بعشرين دقيقة وهو تنبيه أخير لأي صائم، وقد ينادي منادٍ (ارفعوا)، أي الطعام”.
العشرة الأواخر من رمضان: ليالي الخشوع الكبير
جامعا الحسين والسيدة زينب يمتلئان بالمصلين في رمضان أكثر من أي وقت من العام، لكن العشر الأواخر مختلفة، وكثافة المصلين تكون في أوْجها في ليلة السابع والعشرين، فالخشوع كان ظاهراً وممتزجاً ببعض الروح المصرية.
إذ كتب المستشرق: “يحيي الأتقياء المتدينون آخر عشرة أيام من رمضان في نهاراته ولياليه بجامع الحسين أو جامع السيدة زينب، وتُعرف إحدى هذه الليالي وهي ليلة السابع والعشرين منه عامةً بليلة القدر (أي الليلة السابقة لنهار السابع والعشرين)، ويقال إن القرآن أُنزل على محمد في تلك الليلة. ويؤكدون أن ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزَّل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر. وتكون أبواب السماء مفتوحة في تلك الليلة فتقام الصلاة التي لا بد أن تستجاب”.
وليتأكد المصريون وقتها من أن ليلة القدر هي ذاتها التي تعبدوا فيها، كانوا يؤمنون بأن الماء المالح يصبح حلو المذاق في تلك الليلة، ويتأكد من ذلك الصالحون الذين يستقبلون هذه الليالي بخشوع كبير، إذ كان كل جماعة من المصريين يضعون إناء فيه ماء مالح ويجعلون إمامهم يتذوقه، وإن ذاق حلاوته فإنهم يتأكدون من أنها ليلة القدر.
لكن حلاوة الماء المالح استُبدلت بالكنافة والقطائف، مثلها مثل كثير من الطقوس التي كانت تميز استقبال رمضان في مصر قبل أكثر من 180 عاماً.